الخطبة الأولى
أيها الناس:
عنوان هذه الخطبة سنريهم آياتنا في الآفاق [فصلت:53]. والله عزّ وجلّ، يقول: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت وإلى السماء كيف رُفعت وإلى الجبال كيف نُصبت وإلى الأرض كيف سُطحت [الغاشية:17–20].
تلـك الطبيعـةُ قـِفْ بنـا يا سـاري حتى أُريك بديعَ صنعِ الباري
الأرضُ حولـَكَ والسمـاء اهتـزَّتـا لروائـع الآيـاتِ والآثــارِ
ولقـد تمرُّ علـى الغـديـر تخالُـه والنبتُ مـرآةٌ زهـَتْ بإطـارِ
حلـوُ التسلسـل موجُـه وخـريـرُه كأنامـلٍ مـرّت علـى أوتـارِ
ينسـابُ فــي مُخْضَلـَّةٍ مُبْتَلـّــَةٍ منسـوجةٍ من سـندس ونضَارِ
وترى السماء ضحى وفي جنح الدّجى منشـقـة عـن أنهـرٍ وبحـار
فـي كـل ،ـاحيـةٍ سَلَكْتَ ومـذهبٍ جبـلانِ من صخرٍ وماءٍ جاري
سبحان من خلـق الوجـودَ مصـوِّرًا تلـك الدّمـى ومقـدّرِ الأقـْدارِ
من هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، هل يستطيع أحد في العالم، هل يستطيع كيان، أو منظمة، أو مؤسسة، أو هيئة علمية، أن تدعي وتزعم أنها هي التي أعطت كل شيء خلقه ثم هدَت ؟. لا، وألف لا، إن الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى هو الله.
ردّ بهذا الرد موسى كليم الله على فرعون عدو الله، لما سأله فرعون: من ربكما، ما تعريفه، ما ترجمته، ما آثاره، ما هي الدلائل القائمة على وحدانيته، ما هي البراهين الساطعة على ألوهيته.
فقال موسى: ربُّنا الذي أَعْطى كلَّ شيء خَلْقه ثم هدى [طه:50].
وهذه الآية تشمل عالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الإنسان، وعالم البر، وعالم البحر، وعالم الجو، فالله يتجلى في عصر العلم، كلما مرَّ يوم، وكلما اكتشف اكتشاف، دلنا على الله وعلى قدرته ووحدانيته.
وفي كل شيء له آيةٌ تدلُّ على أنه واحدُ
سنريهِم آياتِنا في الآفاق وفي أنْفُسِهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحقُّ [فصلت:53].
كان السلف يعرفون من قوله تعالى: فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّت ورَبَتْ وأنبتَتْ من كل زوجٍ بهيج [الحج:5]. أن الأرض تخضر وتُثْمِر وتُزهِر إذا نزل عليها الماء، ثم تقدم العلم، واكتشف أهل علم النبات؛ أن الإنسان إذا وضع الحب اليابس في الأرض اليابسة لا ينبت الزرع، حتى تهتز الأرض درجة واحدة من درجات جهاز (رختر) فتنصدع قشرة الحبة، فتنبت بإذن الله، والله يقرر ذلك قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وقبل أن تهتز لا تنبت ولا تثمر.
أحد الشعراء كان مسرفًا على نفسه في الخطايا، أبو نواس، وعندما توفي، رآه أحد علماء أهل السنة في المنام في هيئة حسنة، عليه ثياب بيض، جالس في بستان، قال: يا أبا نواس كيف حالك؟ قال: لقد أتيت إلى الكريم فغفر لي، قال: بماذا؟ قال: بقصيدتي في وردة النرجس:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لُجَين شـاخصـات بأحداقٍ هي الذهبُ السبيكُ
على كُثُبِ الزَّبَرْجَد شاهـداتٌ بأن الله ليس له شريكُ
النخل.. الرمان.. الريحان.. كل نبت.. كل زهر، يشهد أن لا إله إلا الله.
إنها معالم الوحدانية، ودلائل الألوهية، وآيات الربوبية.
وعرف السلف قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم [الواقعة:75]. قالوا: إن ذلك إشارة إلى أماكنها، وتطور الإعجاز العلمي، فاكتشف علماء الفلك، أن هناك نجومًا ذهبت من أماكنها، أرسلها الله، سرعتها كسرعة الضوء أو أكثر، ولم ترتطم بالأرض إلى اليوم، وبقيت مواقعها هناك، فقال الله: فلا أقسمُ بمواقعِ النجوم. ولم يقل: فلا أقسم بالنجوم تعظيمًا لمواقعها.
والله يقول: والسماء بنيناها بأيْدٍ وإنّا لموسعون [الذاريات:47]. يقول العلماء: إن الله، عزّ وجلّ، أوسع الكون، وجعله فسيحًا، بصحاريه، وفيافيه، وبحاره، ومحيطاته، ثم تطور علم الإنسان إلى أن وصل إلى قضية مذهلة؛ وهي أن الكون يتسع كل يوم كما يتسع البالون إذا مُلئ بالهواء تماماً !!, يوسع الله الكون، نعم هذه قدرته وهذا سلطانه، ليهْلِكَ من هلك عن بينة ويحيى من حىَّ عن بينه [الأنفال:22].
ويقول جلّ ذكره: وأرسلنا الرياح لواقح [الحجر:22].
مَن ما يدري معنى لواقح، وكيف تلقح الرياح، وما فائدة تلقيح الرياح، وما المادة التي تلقحها الرياح بإذن الله.
يقول العلماء: يُحمِّل الله المعصرات من السحب بماء البحر، بعد أن يتبخّر، ثم يسوقه بالريح، فيأتي الملك يهتف ويقول: اسق بلد كذا وكذا، فيذهب السحاب ولكنه لا يسقط منه قطرة، حتى يرسل الله الرياح مُحمّلة بذرات الغبار فتصطدم بالسحاب تلقّحه، فيهبط الغيث بإذن الله.
وهناك فرق بين الرياح والريح، أما الريح فمهلكة دبور مُمرضة، وأما الرياح فنافعة مفيدة مثمرة لا تأتي إلا بخير، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا هبّت الرياح قال: ((اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً))[1].
كان النبي عليه الصلاة والسلام، يقوم في وسط الليل ليصلي، ثم ينظر إلى السماء ويقول: إن في خلقِ السماواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلقِ السماواتِ والأرضِ ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقنا عذابَ النار[2] [آل عمران:190-191].
وفي التنزيل والجبال أرساها [النازعات:32].
أين أرساها؟ ولماذا أرساها؟ وكيف أرساها؟ أرساها في الأرض، قال أهل العلم: طول الجبل في باطن الأرض ضعف طوله فوق سطح الأرض، فكل جبل من الجبال، لم يخرج منه على سطح الأرض إلا الثلث، وبقي الثلثان في بطن الأرض، أوتد الله الأرض بالجبال، ثم وزّعها على القارات والجزر، حتى لا تهتزّ الأرض، ولو جمعها في منطقة واحدة لاضطرب حال الأرض، ولتقلّبت، ولانتهت كل الكائنات الحية الموجودة على سطحها، هذا خَلْقُ الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلالٍ مبين [لقمان:11].
أروني استعدادات البشر، أروني صنع البشر، أروني خلق البشر يا أيها الناس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يَستنقِذوه منه ضَعُف الطالبُ والمطلوبُ [الحج:73].
وخلق الله عالم الحيوان، والحديث عنه طويل، قال علماء الحيوان: جعل الله في خياشيم الكلب مادة شامّة، يَعرف بها من بعيد صديقه من عدوه، ولا يصيب الكلب عرق، فإذا أراد أن يتنفس من المسام، لهث في الليل والنهار كمَثَل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركْهُ يلهث [الأعراف:176].
فمن الذي خلق.. ومن الذي صوّر.. ومن الذي أبدع.
يُرسل الإنسان الحمام الزاجل، يحمل الرسائل من مكان إلى مكان، ويعود إلى صاحبه، فلا يَضِل، ولا يضيع، ولا يضطرب، من الذي علّمه، من الذي بَصَّره بالطريق، من الذي هداه؟ إنه الله الواحد الواحد الأحد، الذي أعطى كلَّ شيء خلقه ثم هدى [طه:50].
خلق الله العنكبوت، منها صنف وفصيلة تعيش في البحر، فإذا أرادت أن تبيض، بَنَت عُشّها تحت سطح البحر، ثم عمِلَت عُشّاً كالبالون لا يخترقه الماء، وعبّأته بالهواء، وأَسْرَجَتْه بإذن الله بمادة في أنفها، ثم جعلت تبيض في العش فمن الذي أعطى كل شيء خلقَه ثمَّ هدى.
خلق الله النملة، تذهب لرِزقِها في الصباح وتأتي في المساء، تَعلَم بقدوم فصل الشتاء حيث الأمطار والبرد، فتدخِّر قوتها، من الصيف في مخازن تحت الأرض، حتى إذا جاء فصل الشتاء، كان عندها ما تعيش عليه، وإذا خافت أن تنبت الحبةُ التي خزنتها، قسمتها نصفين لئلا تنبت، فمن علّمها؟ ومن بصّرها؟ إنه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
أيها الناس:
إن قضية الخلق والهداية لهي من أهم القضايا التي عالجها الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدَّمَ العلم، وتطورت الأبحاث، وكلما تطور العلم، كلما اهتدى الإنسان، وعلم أنَّ لهذا الكون إلهاً لا إله إلا هو.
أما رأيتم لأولئك الذين كانوا في المستعمرة السوفيتية وراء السور الحديدي، خرج كثير منهم يقول لا إله إلا الله، دلَّهم العلم على الواحد الأحد إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر:28].
فالعلماء كلما تجرَّدوا من العصبية، وأخلصوا في اكتشاف الحقائق، عرفوا الله، واكتشفوا بعض أسرار الكون، وآمنوا به ووحدوه سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحق [فصلت:53].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.